سرّ الصلاة الإقبال على الله
و سرُّ الصلاة و
روحها و
لبُّها ، هو إقبال العبد على الله بكليّته فيها ، فكما أنه لا
ينبغي أن
يصرف وجهه عن القبلة إلى غيرها فيها ، فكذلك لا ينبغي له أن
يصرف قلبه عن
ربِّه إلى غيره فيها.
بل يجعل
الكعبة ـ التي هي بيت الله ـ قبلة
وجهه و بدنه ، و رب البيت تبارك و
تعالى قبلة قلبه و روحه ، و على حسب
إقبال العبد على الله في صلاته ،
يكون إقبال الله عليه ، و إذا أعرضَ أعرض
الله عنه ، كما تدين تُدان.
للإقبال
على الله في الصلاة ثلاث منازل
و الإقبال في
الصلاة على ثلاثة منازل:
*إقبال العبد على قلبه
فيحفظه و يصلحه من أمراض الشهوات و الوساوس ، و الخطرات المُبطلة لثواب
صلاته أو المنقصة لها.
* و الثاني : إقباله على الله بمراقبته فيها
حتى يعبده كانه يراه.
*و الثالث : إقباله على معاني كلام الله ، و
تفاصيله و عبودية الصلاة ليعطيها حقها من الخشوع و الطمأنينة و غير ذلك.
فباستكمال
هذه المراتب الثلاث يكون قد أقام الصلاة حقاً ، و يكون إقبال الله على
المصلي بحسب ذلك.
كيف يكون الإقبال في كل جزء من أجزاء
الصلاة
فإذا انتصب العبد قائماً بين يديه ،
فإقباله على قيُّومية الله و عظمته فلا يتفلت يمنة و لا يسرة.
و
إذا كبَّر الله تعالى كان إقباله على كبريائه و إجلاله و عظمته.
و
كان إقباله على الله في استفتاحه على تسبيحه و الثناء عليه و على سُبحات
وجهه
، و تنزيهه عمَّا لا يليق به ، و يثني عليه بأوصافه و كماله.
فإذا
استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ، كان إقباله على ركنه الشديد ، و سلطانه و
انتصاره لعبده ، و منعه له منه و حفظه من عدوه.
و إذا تلى كلامه
كان إقباله على معرفته في كلامه كأنه يراه و يشاهده في كلامه كما قال بعض
السلف : لقد تجلّي الله لعباده في كلامه.
و
الناس في ذلك على
أقسام و لهم في ذلك مشارب ، و أذواق فمنهم البصير ، و
الأعور ، و
الأعمى ، و الأصم ، و الأعمش ، و غير ذلك ، في حال التلاوة و
الصلاة ،
فهو في هذه الحال ينبغي له أن يكون مقبلاً على ذاته و صفاته و
أفعاله و
أمره و نهيه و أحكامه و أسمائه.
و إذا ركع كان إقباله على عظمة ربه
، و إجلاله و عزه و كبرسائه ، و لهذا شرع له في ركوعه أن يقول : " سبحان
ربي العظيم " .
فإذا رفع رأسه من الركوع كان إقباله على حمد ربه و
الثناء عليه و تمجيده و عبوديته له و تفرده بالعطاء و المنع.
فإذا
سجد ، كان إقباله على قربه ، و الدنو منه ، و الخضوع له و التذلل له ، و
الافتقار إليه و الانكسار بين يديه ، و التملق له.
فإذا
رفع
رأسه من السجود جثى على ركبتيه ، و كان إقباله على غنائه وجوده ، و
كرمه
و شدة حاجته إليهنّ ، و تضرعه بين يديه و الانكسار ؛ أن يغفر له و
يرحمه
، و يعافيه و يهديه و يرزقه.
فإذا جلس في التشهد فله حال آخر ،
و إقبال آخر يشبه حال الحاج في طواف الوداع ، و استشعر قلبه الانصراف من
بين
يدي ربه إلى أشغال الدنيا و العلائق و الشواغل التي قطعه عنها الوقوف
بين
يدي ربه و قد ذاق قلبه التألم و العذاب بها قبل دخوله في الصلاة ،
فباشر
قلبه روح القرب ، و نعيم الإقبال على الله تعالى ، و عافيته منها و
انقطاعها
عنه مدة الصلاة ، ثم استشعر قلبه عوده إليها بخروجه من حمى الصلاة
،
فهو يحمل همَّ انقضاء الصلاة و فراغه منها و يقول : ليتها اتصلت بيوم
اللقاء.
و
يعلم أنه ينصرف من مناجاة مَن كلّ السعادة في مناجته ،
إلى مناجاة من
كان الأذى و الهم و الغم و النكد في مناجاته ، و لا يشعر
بهذا و هذا
إلا من قلبه حي معمور بذكر الله و محبته ، و الأنس به ، و من هو
عالم
بما في مناجاة الخلق و رؤيتهم ، و مخالطتهم من الأذى و النكد ، و ضيق
الصدر و ظلمة القلب ، و فوات الحسنات ، و اكتساب السيئات ، و تشتيت الذهن
عن
مناجاة الله تعالى عز و جل .
الكلام على التسليم
و
لما كان العبد بين أمرين من ربه عز و جل :
أحدهما
: حكم الرب عليه في أحواله كلها ظاهرا و باطنا ، و اقتضاؤه من القيام
بعبودية
حكمه ، فإن لكلّ حكم عبودية تخصه ، أعني الحكم الكوني القدري.
و
الثاني : فعل ، يفعله العبد عبودية لربه ، و هو موجب حكمه الديني الأمري.
و
كلا الأمرين يوجبان بتسليم النفس إلى الله سبحانه ، و لهذا اشتق له اسم
الإسلام
من التسليم ، فإنه لما سلّم لحكم ربه الديني الأمري ، و لحكمه
الكوني
القدري ، بقيامه بعبودية ربه فيه لا باسترساله معه في الهوى ، و
الشهوات
، و المعاصي ، و يقول : قدَّر عليّ استحق اسم الإسلام فقيل له :
مسلم.
الشروع
في بيان ثمرات الخشوع
و لما
اطمأن قلبه
بذكر الله ، و كلامه ، و محبته و عبوديته سكن إلى ربه ، و قرب
منه ، و
قرَّت به عينه فنال الأمان بإيمانه و نال السعادة بإحسانه ، و كان
قيامه
بهذين الأمرين أمراً ضرورياً اه لا حياة له ، و لا فلاح و لا سعادة
إلا
به .
و لما كان ما بُلي به من النفس الأمارة ، و
الهوى المقتضي
لمرادها و الطباع المطالبة ، و الشيطان المغوي ، يقتضون
منه إضاعة حظه من
ذلك ، أو نقصانه ، اقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم أن
شَرَعَ له الصلاة
مُخلِفة عليه ما ضاع عليه من ذلك ، رادَّة عليه ما
ذهب منه ، مجددة له ما
ذهب من عزمه و ما فقده ، و ما أخلِقَ من إيمانه ،
و جعل بين كل صلاتين
برزخا من الزمان حكمة و رحمة ، ليُجمّ نفسه ، و
يمحو بها ما يكتسبه من
الدرن ، و جعل صورتها على صورة أفعاله ، خشوعاً و
خضوعاً و انقياداً و
تسليماً و أعطى كل جارحة من جوارحه حظَّها من
العبودية ، و جعل ثمرتها و
روحها إقباله على ربه فيها بكليته ، و جعل
ثوابها و محلها الدخول عليه
تبارك و تعالى ، و التزين للعرض عليه
تذكيراً بالعرض الأكبر عليه يوم
القيامة.
لكل
شيء ثمرة و ثمرة الصلاة الإقبال على الله
و
كما أن الصوم ثمرته تطهير النفس ، و ثمرة الزكاة تطهير المال ، و ثمرة
الحج
وجوب المغفرة ، و ثمرة الجهاد تسليم النفس إليه ، التي اشتراها سبحانه
من العباد ، و جعل الجنة ثمنها ؛ فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله ، و
إقبال
الله سبحانه على العبد ، و في الإقبال على الله في الصلاة جميع ما
ذكر
من ثمرات الأعمال و جميع ثمرات الأعمال في الإقبال على الله فيها.
و
لهذا لم يقل النبي صلى الله عليه و سلم : جعلت قرة
عيني في الصوم ، و لا
في الحج و العمرة ، و لا في شيء من هذه الأعمال و
إنما قال : " و جعلت قرة
عيني في الصلاة ".
و تأمل قوله : " و
جعلت قرة عيني في الصلاة " و
لم يقل : " بالصلاة " ، إعلاماً منه بأن
عينه لا تقر إلا بدخوله كما تقر
عين المحب بملابسته لمحبوبه و تقر عين
الخائف بدخول في محل أنسه و أمنه ،
فقرة العين بالدخول في الشيء أم و
أكمل مِت قرة العين به قبل الدخول فيه ، و
لما جاء إلى راحة القلب من
تعبه و نصبه قال : " يا بلال أرحنا بالصلاة ".
لماذا الراحة
بالصلاة ؟
أي
أقمها لنستريح بها من
مقاساة الشواغل كما يستريح التعبان إذا وصل إلى
مأمنه و منزله و قرَّ
فيه ، و سكن و فارق ما كان فيه من التعب و النصب.
و
تامل كيف قال : " أرحنا بالصّلاة " و لم يقل : " أرحنا منها " ، كما يقوله
المتكلف الكاره لها ، الذي لا يصليها إلا على إغماض و تكلف ، فهو في عذاب
ما
دام فيها ، فإذا خرج منها وجد راحة قلبه و نفسه ؛ و ذلك أنَّ قلبه ممتلئ
بغيره ، و الصلاة قاطعة له عن أشغاله و محبوباته الدنيوية ، فهو معذَّب
بها
حتى يخرج منها ، و ذلك ظاهر في أحواله فيها ، من نقرها ، و التفات قلبه
إلى غير ربه ، و ترك الطمأنينة و الخشوع فيها ، و لكن قد عَلِمَ أنَّه لا
بدّ
له من أدائها ، فهو يؤديها على أنقص الوجوه ، قائل بلسانه ما ليس في
قلبه
و يقول بلسان قلبه حتى نصلي فنستريح من الصلاة ، لا بها.
فهذا لونٌ
و ذاك لونٌ آخر .
ففرق
بين مَن كانت الصلاة لجوارحه قيداً
ثقيلاً ، و لقلبه سجناً ضيقا حرجاً ، و
لنفسه عائقا ، و بين مَن كانت
الصلاة لقلبه نعيماً ، و لعينه قرة و
لجوارحه راحة ، و لنفسه بستاناً و
لذة.
فالأول : الصلاة سجن لنفسه ،
و تقييد لجوارحه عن التورط
في مساقط الهلكات ، و قد ينال بها التكفير و
الثواب ، أو ينال من
الرحمة بحسب عبوديته لله تعالى فيها ، و قد يعاقب على
ما نقص منها.
و
القسم الآخر : الصلاة بستان له ، يجد فيها راحة قلبه
، و قرّة عينه ، و
لذَّة نفسه ، و راحة جوارحه ، و رياض روحه ، فهو فيها
في نعيم يتفكَّه
، و في نعيم يتقلَّب يوجب له القرب الخاص و الدنو ، و
المنزلة العالية
من الله عزَّ و جل ، و يشارك الأولين في ثوابهم ، بل يختص
بأعلاه ، و
ينفرد دونهم بعلو المنزلة و القربة ، التي هي قدر زائد على مجرد
الثواب.